كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِنْ مَانِعِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِهَا قَالَ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْإِطْلَاقُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ ذِكْرُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَقَدْ كَانَ نَزْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَرِجًا وَعَسِرًا، فَفِي مَسْحِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَعَ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ لِحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَعِلَّتِهِ الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَإِنَّ الْعُضْوَ الْمَسْتُورَ يَبْقَى نَظِيفًا، وَلَا حَرَجَ الْآنَ فِي رَفْعِ الْعَمَائِمِ فِي الْحِجَازِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَبِلَادِ التُّرْكِ عَلَى الرَّأْسِ لِأَجْلِ مَسْحِهِ مِنْ تَحْتِهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوضَعُ عَلَى قَلَانِسَ تَرْفَعُ مَعَهَا بِسُهُولَةٍ، وَلَكِنْ يَعْسُرُ مَسْحُهُ كُلُّهُ بِالْيَدَيْنِ كِلْتَيْهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْهِنْدِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ يَحْتَنِكُونَ بِالْعِمَامَةِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ السَّلَفُ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ عَمَائِمِهِمْ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُظْهِرُوا نَاصِيَتَهُمْ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَيَمْسَحُوا بِهَا، وَيُتَمِّمُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ؛ لِيَكُونَ وُضُوءُهُمْ صَحِيحًا عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَمَنْ مَسَحَ شَيْئًا أَوْ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَسَحَ ذَلِكَ الشَّيْءَ، أَوْ بِهِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: وَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى صَدْرِي، لَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً، أَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأَصْلَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِدُونِ سَاتِرٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فَرْضِيَّتِهِ تَنْظِيفُهُ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ، وَهُوَ الْمُتَيَسِّرُ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: «إِذَا مَسَحَ الرَّجُلُ بِأَيِّ رَأْسِهِ شَاءَ، إِنْ كَانَ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَبِأَيِّ شِعْرٍ شَاءَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْضِ أُصْبُعٍ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَمْسَحُ لَهُ- أَجْزَأَهُ ذَلِكَ» انْتَهَى. وَبَيَّنَ فِيهِ أَنْ أَظْهَرَ مَعْنَيَيِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَنَّ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَلَكِنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَحَدِيثًا مُرْسَلًا فِي مَعْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي، وَقَالَ: «الْجُزْءُ الْمَمْسُوحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهِ».
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: «يَجْزِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَيَمْسَحُ الْمُقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ وَالْجِبَائِيُّ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:» يَجِبُ مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ «وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْدِيدُ عَنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: إِنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ (الْبَاءُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِرُءُوسِكُمْ} هَلْ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ؛ فَيُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَمْ زَائِدَةٌ؛ فَيَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ، أَمْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَاهَا؟ وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَ إِمَامِهِمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْمَسْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَهِيَ تَسْتَوْعِبُ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فِي الْغَالِبِ؛ فَوَجَبَ تَعَيُّنُهُ، وَهَذَا أَشَدُّ الْأَقْوَالِ تَكَلُّفًا، وَلَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمَسْحُ بِمَجْمُوعِ الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، رُبُعَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَيْسَتِ الْيَدُ رُبُعَ الرَّأْسِ بِالتَّحْدِيدِ، وَقَدْ عَبَّرُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: غَالِبًا.
وَلَوْ كَانَ مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْرَ الْيَدِ لَعَبَّرَ بِهِ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ نَصًّا فِي مَسْحِ جَمِيعِ النَّاصِيَةِ، فَالْخِلَافُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ يَجْرِي فِي مَسْحِ النَّاصِيَةِ؛ فَالِاسْتِدْلَالُ بِمَسْحِهَا مُصَادَرَةٌ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِ الْبَاءِ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: اسْتِقْلَالًا، وَإِنَّمَا تُفِيدُهَا مَعَ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْبَاءِ الْإِلْصَاقُ، لَا التَّبْعِيضُ أَوِ الْآلَةُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ مِنْ: مَسَحَ بِكَذَا، وَمَسَحَ كَذَا؛ فَهُوَ يَفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ: مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ: أَنَّهُ أَزَالَهُ بِإِمْرَارِ يَدِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِالطِّيبِ أَوِ الدُّهْنِ: أَنَّهُ أَمَرَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ مَسْحِ الشَّيْءِ بِالْمَاءِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهِ مَاءً قَلِيلًا لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ غُبَارٍ أَوْ أَذًى، وَمِنْ مَسْحِ يَدِهِ بِالْمِنْدِيلِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهَا الْمَنْدِيلَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهَا مَنْ بَلَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَسَحَ بِعُنُقِ الْفَرَسِ أَوْ سَاقِهِ أَوْ بِالرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ: أَنَّهُ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِمَجْمُوعِ الْكَفِّ الْمَاسِحِ، وَلَا بِكُلِّ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ أَوِ الْعُنُقِ أَوِ السَّاقِ أَوِ الرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ الْمَمْسُوحِ، فَهَذَا مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ مِمَّا ذُكِرَ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} (38: 33) عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ، أَنَّ الْمَسْحَ بِالْيَدِ لَا بِالسَّيْفِ، وَمِنْ مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ ** وَمَسَحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ

وَالْأَقْرَبُ: أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْمَسْحِ، مَعَ مَفْهُومِ عِبَارَةِ الْآيَةِ، قِيلَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ مُجْمَلَةُ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَصَرَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَجَعَلَ الْمُطْلَقَ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، فَأَيُّهُمَا وَقَعَ حَصَلَ بِهِ الِامْتِثَالُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَكَانَ الصَّحِيحُ فِي بَيَانِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ يَكُونُ عَلَى الرَّأْسِ كُلِّهِ مَكْشُوفًا، وَعَلَى بَعْضِهِ مَعَ التَّكْمِيلِ عَلَى الْعِمَامَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ، وَلَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ بِمَسْحِ الْبَعْضِ، إِلَّا حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَطَرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّ أَبَا مَعْقِلٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: «إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ، أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ كَمَّلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ- وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا- فَهَذَا مَقْصُودُ أَنَسٍ بِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْقُضْ عِمَامَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ مَسْحَ الشَّعْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَنْفِ التَّكْمِيلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَسُكُوتُ أَنَسٍ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ» انْتَهَى.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ الْمُرْسَلِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْبَعْضِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرُّبُعِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأَسِهِ، أَوْ قَالَ نَاصِيَتَهُ، وَهَذَا بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْخِلَافِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَقَدْ مَنَعَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الْمَكِّيِّ الْفَقِيهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً، وَضَعَّفَهُ أُخْرَى، كَمَا ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الرُّبُعِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ يَكْفِي فِي الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْعُضْوِ الْمَاسِحِ مُلْصَقًا بِالْمَمْسُوحِ، فَوَضْعُ الْيَدِ أَوِ الْأُصْبُعِ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى مَسْحًا، وَلَا يَكْفِي مَسْحُ الشَّعْرِ الْخَارِجِ عَنْ مُحَاذَاةِ الرَّأْسِ كَالضَّفِيرَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَمْسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ إِذَا كَانَ مَكْشُوفًا، وَبَعْضَهُ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا، وَيُكْمِلُ عَلَى السَّاتِرِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى السَّاتِرِ وَحْدَهُ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَمْسَحَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
الْفَرْضُ الرَّابِعُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ مَسْحِهِمَا، أَوْ مَسْحُهُمَا بَارِزَتَيْنِ أَوْ مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالْفَتْحِ؛ أَيْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ: ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ، بِالْجَرِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الرَّأْسِ؛ أَيْ وَامْسَحُوا بِأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا؛ فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْغَسْلُ وَحْدَهُ، وَالشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ أَنَّهُ الْمَسْحُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ لِلْحَقِّ، مِنَ الزَّيْدِيَّةِ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَسَتَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ جَرِيرٍ الْجَمْعُ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ فَأَرَادُوا الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّعَارُضِ إِذَا أَمْكَنَ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ فَأَجَازُوا الْأَخْذَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ إِلَيْهَا، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، عِنْدَ ذِكْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا، إِلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ الْجَرِّ إِلَيْهَا، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الطَّهَارَةِ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمَسْحَ مَنْسُوخٌ.
وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ عَمَلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقَوْلِيَّةِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: «تَخَلَّفَ عَنَّا، رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، قَالَ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» وَقَدْ يَتَجَاذَبُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّرَفَانِ، فَلِلْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ أَنْ يَقُولُوا إِنِ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَمْسَحُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ عَدَمَ مَسْحِ أَعْقَابِهِمْ، وَذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِسَبَبِ الْمَسْحِ، لَا بِسَبَبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الرِّجْلِ، ذَكَرَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَافِظُ، أَيِ ابْنُ حَجَرٍ: «وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا» وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ: «فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ بِيضٌ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ» فَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِإِجْزَاءِ الْمَسْحِ وَيَحْمِلُ الْإِنْكَارَ عَلَى تَرْكِ التَّعْمِيمِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَرْجَحُ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ: أَيْ مَاءُ الْغَسْلِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ ذَلِكَ» انْتَهَى. وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْمَسْحَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، قَالَ: «اغْسِلُوا الْأَقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَقَرَآ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَسَمِعَ عَلِيٌّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَرْجُلِكُمْ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ. أَمَّا وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَيَقُولُ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ؛ فَهَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَمْسَحُ لَمَا مَنَعَ الْمَسْحَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْغَسْلِ إِلَّا لِأَنَّهُ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَى الْقَوْلَ بِالْمَسْحِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ» وَعَنْ أَنَسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَالسُّنَّةُ الْغَسْلُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ سَوْقِ الرِّوَايَاتِ فِي الْقَوْلَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِعُمُومِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ، كَمَا أَمَرَ بِعُمُومِ مَسْحِ الْوَجْهِ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمَا الْمُتَوَضِّئُ كَانَ مُسْتَحِقًّا اسْمَ مَاسِحٍ غَاسِلٍ؛ لِأَنَّ غَسْلَهُمَا إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا أَوْ إِصَابَتُهُمَا بِالْمَاءِ، وَمَسْحُهُمَا إِمْرَارُ الْيَدِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمَا فَاعِلٌ فَهُوَ غَاسِلٌ مَاسِحٌ، وَكَذَلِكَ مِنِ احْتِمَالِ الْمَسْحِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مَسْحٌ بِبَعْضٍ، وَالْآخَرُ مَسْحٌ بِالْجَمِيعِ، وَاخْتَلَفَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ فَنَصَبَهَا بَعْضُهُمْ تَوْجِيهًا مِنْهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْغَسْلُ، وَإِنْكَارًا مِنْهُ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا مَعَ تَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعُمُومِ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ، وَخَفَضَهَا بَعْضُهُمْ تَوْجِيهًا مِنْهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْمَسْحُ، وَلَمَّا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: إِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ عُمُومُ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ بِالْمَاءِ كَرِهَ مَنْ كَرِهَ، لِلْمُتَوَضِّئِ الِاجْتِزَاءَ بِإِدْخَالِ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ دُونَ مَسْحِهِمَا بِيَدِهِ، أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ؛ تَوْجِيهًا مِنْهُ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَى مَسْحِ جَمِيعِهِمَا عَامًّا بِالْيَدِ، أَوْ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ دُونَ بَعْضِهِمَا مَعَ غَسْلِهِمَا بِالْمَاءِ، وَهَهُنَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ فِي السَّفِينَةِ أَنْ يَغْمِسَ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ غَمْسًا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَخْفِضُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْحِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ وَصَفْنَا مِنْ عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِهِ بِالْمَاءِ، وَخُصُوصِ بَعْضِهِمَا بِهِ، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا بَعْدُ، أَنَّ مُرَادَ اللهِ مِنْ مَسْحِهِمَا الْعُمُومُ، وَكَانَ لِعُمُومِهِمَا بِذَلِكَ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ؛ فَبَيِّنٌ صَوَابُ قِرَاءَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي النَّصْبَ فِي الْأَرْجُلِ وَالْخَفْضَ؛ لِأَنَّ فِي عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِمَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ: غَسْلُهُمَا، وَفِي إِمْرَارِ الْيَدِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ عَلَيْهِمَا: مَسْحُهُمَا. فَوَجَّهَ صَوَابَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ نَصْبًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى عُمُومِهِمَا بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا، وَوَجَّهَ صَوَابَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ خَفْضًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ مَسْحًا بِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ كِلْتَاهُمَا حَسَنًا صَوَابًا، فَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ خَفْضًا؛ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ جَمْعِ الْمَسْحِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَالْعَطْفُ بِهِ عَلَى الرُّءُوسِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ أَوْلَى مِنَ الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْأَيْدِي، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ، الْعُمُومُ دُونَ أَنْ يَكُونَ خُصُوصًا، نَظِيرَ قَوْلِكَ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ؟ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَظَاهُرُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ» وَلَوْ كَانَ مَسْحُ بَعْضِ الْقَدَمِ مُجْزِيًا عَنْ عُمُومِهَا بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهَا الْوَيْلُ بِتَرْكِ مَا تُرِكَ مَسْحُهُ مِنْهَا بِالْمَاءِ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى فَرْضَ اللهِ عَلَيْهِ فِي مَا لَزِمَهُ غَسْلُهُ مِنْهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَيْلَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَوُجُوبُ الْوَيْلِ لِعَقِبِ تَارِكِ غَسْلِ عَقِبِهِ فِي وُضُوئِهِ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْعُمُومِ بِمَسْحِ جَمِيعِ الْقَدَمِ بِالْمَاءِ وَصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَفَسَادِ مَا خَالَفَهُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَأْيُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، بِأَنْ يَغْسِلَ الْمُتَوَضِّئُ رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَهُمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ؛ لِأَجْلِ اسْتِيعَابِ غَسْلِهِمَا عِنَايَةً بِنَظَافَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ أَكْثَرُ عُرُوضًا لَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَمْسَحْهُ لَا يُؤَثِّرُ الْمَاءُ الَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِمَا التَّأْثِيرَ الْمَطْلُوبَ لِتَنْظِيفِهِمَا؛ إِذْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمَا الْجَفَافُ وَالْوَسَخُ، وَبِمَسْحِهِمَا فِي الْغَسْلِ يَسْتَغْنِي بِقَلِيلِ الْمَاءِ عَنْ كَثِيرِهِ فِي تَنْظِيفِهِمَا، وَالِاقْتِصَادُ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ قَلِيلِي الْمَاءِ فِي الْحِجَازِ، وَقَدْ تَنَبَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ قِرَاءَةِ الْجَرِّ: الْأَرْجُلُ مِنْ بَيْنِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَغْسُولَةِ، تُغْسَلُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ مَظِنَّةً لِلْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَعُطِفَتْ عَلَى الرَّابِعِ الْمَمْسُوحِ، لَا لِتُمْسَحَ، وَلَكِنْ لِيُنَبَّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَجِيءَ بِالْغَايَةِ إِمَاطَةً لِظَنِّ ظَانٍّ يَحْسَبُهَا مَمْسُوحَةً؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ غَايَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. انْتَهَى. وَالصَّوَابُ: لِتُمْسَحَ حِينَ تُغْسَلُ.